داعية ولكن من نوع وتوجه آخر ... خط لنفسه طريق وهدف
ولكن كان يؤدي إلى الهلاك والفساد . فمضى في تنفيذ مخططه
حتى سقط ضحية فتاة عرفت كيف تتعامل مع أمثاله:
ما أجمل الماضي وما أقساه ، صفتان أجتمعت في ذكرى رجل واحد ، صفتان متضادتان
أحاول أن أتذكر الماضي من أجل أن أرى طفولتي البريئة فيها ...
وأحاول أن أهرب من تذكره كي لاأرى الشقاء الذي عشته فيه عنفوان شبابي
...فحينما وصلت سن الخامسة عشرة كنت في أشد الصراع مع طريقين
هما طريق الخير وطريق الشر ... لكن من سوء حظي أنني أخترت طريق الشر ،
فقلدتني الشياطين أغلى وسام لديها، وصرت تبعاً لها ...
بل لم تمضي أيام حتى تمردت عليها فأصبحت هي التابعة لي ،
فأخذت مسلك الشر وأستسقيت من منهاله
المر الذي أشد من مرارة العلقم و أيم الله ...
فلم أتخلى يوماً عن المشاركة في تفتيت روابط القيم والشيم الرفيعة ،
حتى أصبح إسمي علماً من أعلام الغواية والضلال
وذات مرة أسترعى إنتباهي فتاة كانت في الحي الذي أسكن فيه ،
وكانت كثيراً ما تنظر إلىّ نظرة لم أعي معناها ... لكنها لم تكن نظرات عشق ،
ولاغرام ، رغم أنني لا أعرف العشق و لا الغرام حيث لم يكن لي قلب وقتها ...
وتغلغلت في أفكاري تلك النظرات التي أستوقفتني كثيراً ،
حتى هممت أن أضع شراكي على تلك الفتاة
و بعد فترة أخذت منظومة شعرية يقولون أنها منظومة عشق ،
فأرسلتها لها عبر باب منزلها ، ولكن لم أجد منها رد بذلك و لا تجاوب ...
و أخذتني بعدها العزة بالأثم لأغوين تلك الفتاة شاءت أم أبت ،
فكتبت فيها قصيدةً شعرية من غير ذكر إسم لها ...
حتى وصلها الخبر بذلك ، لكنها لم تتصرف ولم يأتي منها شئ ،
و ذات ليلة كنت عائداً إلى منزلي الساعة الرابعة فجراً ،
فأنا ممن هو مستخفي بالنهار وساربُ ُ بالليل ...
وإذا بي أجد عند الباب كتاب عن الأذكار النبوية ،
فأحمر وجهي لذلك وأستحضرت جميع إرادات الشر التي بداخلي ،
حيث عرفت أن التي أرسلته لي هي تلك الفتاة ...
وبهذا فهي قد أعلنت حرباً معي ،
ففكرت وقتها على أن أكتب قصيدة عن واقعة حب بيني وبينها وأنشرها بالحي ،
وبعدها أكون قد خدشت بشرفها ... وجلست أستوحي ماتمليه الشياطين
على ّ من ذلك الوحي الشعري ، ففرغت من قصيدتي تلك وأرسلت بها إلى دارها
مهدداً إياها بأن ذلك سوف ينشر لدى كافة معارفك ...
وجاءني المرسول الذي بعثت معه القصيدة بتمرات ،
وقال لي إن الفتاة صائمة اليوم وهي على وشك الإفطار
و قد أرسلت معي هذه التمرات لك هديةً منها لك على قصيدتك بها ،
و تقول لك إنها ستدعو الله لك بالهداية ساعة الإفطار ...
فأخذت تلك التمرات وألقيتها أرضاً ، وأحمرت عيناي بالشر ،
و توعدتها بالإنتقام عاجلاً أم آجل ، ولن أدعها على طريق الخير أبداً ماحييت
... وأخذت أتصيد فترات روحاتها وجياتها للمسجد بألقاء عبارات السخرية والإستهزاء بها
فكان من معها من البنات يضحكن عليها أشد الضحك ،
و مع ذلك لم تحرك تلك الإستهزاءات ساكناً فيها ...
و مرة الأيام و رأيت أنني فشلت في محاولاتي تلك بأن أضل تلك الفتاة
و أستمرت هي بإرسال كتيبات دينية لي ،
وكل يوم إثنين وخميس وهي الأيام التي كانت تصوم فيهما كانت ترسل التمر لي ،
و كأن لسان حالها يقول أنها قد أنتصرت علىّ ، هذا ماكنت أظنه من تصرفاتها تلك
و ماهي إلا أِشهر إلا وسافرت خارج البلاد باحثاً عن السعادة واللذات الدنيوية
التي لم أرآها في بلدي ، ومكثت قرابة أربعة أشهر ،
و كنت وأنا خارج بلدي منشغل الفكر بتلك الفتاة ،
وكيف نجت من جميع الخطط التي وضعتها لها ...
و فكرت فور وصولي لبلدي أن أبدأ معها المشوار مرة أخرى
بأسلوب أكثر خبثاً و دهاءاً و قررت أنني سوف أردها عن تدينها وأجعلها تسير على درب الشر ...
وجاء موعد الرحلة والرجوع لبلدي وكان يومها يوم خميس ،
وهو من الأيام التي كانت تصومه تلك الفتاة ،
و حينما قدم لنا القهوة و التمر بالطائرة أخذت بشرب القهوة
أم التمر فألقيت به [ حيث كان رمزاً للصائمين ويذكرني بها ] ...
وهبطت الطائرة بمطار المدينة التي أسكن بها وكان الوقت الواحدة ظهراً ،
و ركبت سيارة الأجرة متوجهاً لمنزلي ، وهناك زارني أصدقائي فور وصولي ،
وكلاً منهم قد حصل على هديته مني وكانت تلك الهداية كلها خبيثة ،
وكانت أكبرها قيمة وأعظمها شراً هدية خصصتها لتلك الفتاة ،
كي أرسلها لها ، ولأرى ماتفعله بعد ذلك ...
وخرجت ذاهباً لأتصيد الفتاة عند مقربةً من المسجد قبل صلاة المغرب ،
حيث كانت حريصةً على أداء الصلاة في المسجد
لأن بالمسجد كان جمعية نسائية لتحفيظ القرآن ...
و ما أن أذن المغرب وفرغ من الأذان وجاء وقت الإقامة ، ولم أرى الفتاة ،
أستغربت ، وقلت في نفسي قد تكون الفتاة تغيرت أثناء سفري
و هجرت المسجد وتخلت عن تدينها ذلك ... فعدت لمنزلي ،
وأنا كلي أمل بأن تكون توقعاتي تلك محلها، وأثناء ماكنت أقلب في كتبي
وجدت
مصحفاً مكتوب عليه إهداء إليك لعل الله أن يهديك إلى صراطه المستقيم ،
التوقيع / اسم الفتاة ... فأبعدته عني وسألت الخادمة
من أحضر هذا المصحف إلى هنا فلم تجبني ، وخرجت في يومي الثاني منتظراً الفتاة
عند باب المسجد ومعي المصحف كي أسلمها إياه و أقول لها أنا لست بحاجةٍ إليه ،
كماأنني سوف أبعدك عنه قريباً ، وأنتظرت الفتاة عند المسجد ولكن لم تأتي .
و كررت ذلك عدة أيام لكن دون فائدة فلم اراها ، فذهبت إلى مقربة من منزلها
و سألت أحد الصبيان الصغار الذين كانوا يلعبون مع أخوة لتلك الفتاة ،
فسألتهم: هل فلانة موجودة ؟ فقالوا لي : ولماذا هذا السؤال ! ربما أنت لست من هذا الحي .
قلت بلى ولكن لدي رسالة من صديقة لها كنت أود أن تذهبوا بها لها ،
فقالوا لي إن من تسأل عنها قد توفاها الله وهي ساجدة تصلي بالمسجد قبل أكثر من شهرين
عندها ما أدري ما الذي أصابني فقد أخذت الدنيا تدور بي و أوشكت أن أقع من طولي ،
ورق قلبي وأخذ الدمع من عيني يسيل ،
فعيناي التي لم تعرف الدمع دهراً سالت منها تلك الدموع بغزارة ،
و لكن لماذا كل هذا الحزن ؟ أهو من أجل موتها وحسن خاتمتها أم من أجل شئ آخر ؟
لم أقدر أن أركز وأعلم سبباً وتفسيراً لذلك الحزن الشديد ،
أخذت بالعودة لمنزلي سيراً على الأقدام وأنا هائم
لاأدري أين هي وجهتي وإلى أين أنا ذاهب ...
و جلست أطرق باب منزلي بينما مفتاح الباب بداخل جيبي ،
لقد نسيت كل شئ نسيت من أنا أصبحت أنظر و أتذكر نظرات تلك الفتاة
في كل مكان تلاحقني ... وأيقنت بعدها أنها لم تكن نظرات خبث ولاشئ آخر
بل نظرات شفقة ورحمة علىّ ، فقد كانت تتمنى أن تبعدني هي عن طريق الشر ...
فقررت بعد وفاتها أن أعتزل أهلي ، وفعلاً أعتزلت أهلي والناس جميعاً أكثر من سنة
و سكنت بعيداً عن ذلك الحي وتغيرت حالتي ، وصار خيالها دوماً أراه لم يتركني
حتى في وحدتي ، أصبحت أراها وهي ذاهبة للمسجد وحينما تعود ،
و حاول الكثير من أصدقائي أن يعرفوا سبب بعدي عن المجتمع وعن رغبتي
و أختياري للعيش وحيداً لكنني لم أخبرهم بالسبب ...
و كان المصحف الذي أهدتني إياها لايزال معي ،
فصرت أقبله و أبكي وقمت فوراً بالوضوء والصلاة لكنني سقطت من طولي
فكلما حاولت أن أقوم أسقط ، لأني لم أكن أصلي طوال عمري ،
فحاولت جاهداً فأعانني الله ونطقت بإسمه ، ودعيت وبكيت لله بأن يسامحني
و بأن يرحم تلك الفتاة رحمةً واسعة من عنده ، تلك الفتاة التي كانت دائماً ماتسعى لإصلاحي ...
و كنت أنا أسعى لإفسادها ، لكن تمنيت لو انها لم تمت لأجل تراني على الإستقامة ،
لكن لا راد لقضاء الله ، وصرت دوماً أدعو لها
و أسأل الله لها الرحمة وأن يجمعني بها في مستقر رحمته وأن يحشرني معها ومع عباده الصالحين
يا رب تكون عجبتكم